الخميس، 10 يناير 2013

الرجل الثلجي


دخل في محل لبيع الهدايا. كان يريد أن يختار هدية لإبنته في عيد ميلادها الثاني عشر. كانت هي قد أعجبت بتمثال صغير من الزجاج رافعا يده. تمثال شفاف كأنه مصنوع من الثلج. طلب التمثال من البائع وقدم بطاقته المصرفية للمرأة التي تجلس في الكابينة الزجاجية لدفع قيمة التمثال. إعتذرت أمينة الصندوق منه قائلة ( نحن لا نبيع بالبطاقة المصرفية وعليك أن تسحب المبلغ نقدا من صندوق المصرف الموجود على مسافة من هنا). طلب منها أن تحضر التمثال وأن تلفه بورق الهدايا مع شريط أزرق وأبيض لأن إبنته تحب هذين اللونين. وخرج لسحب مبلغ من صندوق المصرف.
كان المحل يقع في مجمع تجاري. المجمع واسع ومكون من عدة طوابق وبين أطرافه ممرات أشبه بالجسور .. محلات لبيع الأثاث والأدوات الكهربائية وثمة شاشات تلفزيونية تعرض عليها دعايات البضائع وتتخللها الأغاني والرقصات. مواقع للحراسات المدنية ورجال يحملون أجهزة الإتصال. مطاعم صغيرة لبيع الشطائر ووجبات الأكل السريع. مقاه وألعاب أطفال ومحال واسعة لبيع الحمامات الحديثة والمطابخ. معارض لآخر مبتكرات الأزياء ومعارض لوحات معاد رسمها للوحات كلاسيكية تشبه الأصول تماما. وسط كل هذه المخازن والمحال التجارية كان يخشى أن يضيع موقع المحل أثناء عودته فبدأ وهو يمشي يركز على بعض معالم المجمع التجاري حتى يعود إلى حيث محل بيع الهدايا. لم يعثر على صندوق المصرف لسحب المبلغ النقدي فسأل أحد رجال الحراسات الذي يحمل جهازا للإتصال عن مكان الصندوق المصرفي فاشار له الحارس نحو الأعلى. ذهب نحو مكان المصعد. ضغط الزر وأنفتح الباب وكبس على زر الطابق العلوي. تحرك المصعد عاليا ثم توقف. وإنفتح الباب وخرج. وجد نفسه على سطح البناية. سطح واسع إستعمل كموقف للسيارات. كان الوقت غروبا ولم يبق الكثير حتى تغلق المحال أبوابها. كانت بضعة سيارات على سطح البناية. أيقن أنه صعد في المكان الخطأ وأن صندوق المصرف في الطابق الذي تحت. عاد إلى المصعد فلم يجد بابا للمصعد أخذ يدور في جوانب سطح البناية فلم يجد أثرا لباب ولا مخرجا بالسلالم. ذهب نحو حارس موقف السيارات وسأله عن مكان المصعد أو فتحة السلالم فقال له لا أدري وعليك أن تعود من حيث أتيت. حاول أن ينزل من المكان الذي تخرج منه السيارات فمنعه الحارس قائلا هذا خاص للسيارات فقط وهو على شكل منحدر ولا يجوز المشي فيه. بدأت السيارات تخرج من السطح. يضع السائق بطاقته ويفتح الحاجز وتخرج السيارة. وقف أمام بعض السيارات وطلب من أصحابها أن يخرج معهم بسياراتهم فلم يستجب أحد لطلبه. خرجت كل السيارات وبقيت سيارة واحدة هي سيارة حارس موقف السيارات. أغلق الحارس باب الكابينة الزجاجية وتوجه نحو سيارته ليغادر فرجاه أن يحمله معه إلى خارج البناية لكي يدخلها من الباب الرئيسي من أجل العودة إلى المجمع التجاري ويسحب المبلغ ويشتري هدية عيد ميلاد إبنته رجل الثلج. لم يستمع الحارس إلى حديث الرجل بل فتح باب سيارته ووضع البطاقة في جهاز الموقف وأنفتح الحاجز وخرجت آخر سيارة من مكان موقف السيارات. حاول أن يخرج من نفس المكان الذي تخرج منه السيارات إلا أن بابا من الحديد قد نزل وأغلق الفتحة.
بقي واقفا فوق السطح. عبثا حاول العثور على باب المصعد الذي خرج منه. لا يوجد مثل هذا الباب ولا أية فتحة لسلالم تؤدي إلى المكان الذي كان فيه. السماء ملبدة بالغيوم التي صارت تنث مطرا خفيفا باردا أشبه بزخات من الثلج. مر بعض الوقت وبدأ يشعر بالبرد وبدأ الثلج يتساقط أشبه بنتف القطن. صار يمشي فوق السطح محاولا أن يحرك دورته الدموية ويقفز حينا ويفرك يديه حينا آخر. وقرر أن يستسلم للأمر الواقع حتى يطل الصباح ويأتي الحارس وأصحاب السيارات ويجد لنفسه حلا. ما كان يقلقه فقط هو قلق عائلته وإبنته في حفل عيد ميلادها تلك الليلة. بدأ الثلج يتكاثر ويتساقط بكثافة ووجد نفسه أبيضا ويدأ يهز نفسه ويتساقط الثلج من ملابسه ولكن سرعان ما تلتصق نتف الثلج على ملابسه وشعره. بقي يتعامل مع هذا الواقع. مرة ينظف نفسه من الثلج ومرة أخرى يترك الأمر حتى شعر بالنعاس فإستلقى في وسط مساحة السطح ونام والثلج يتكدس فوق السطح وفوقه حتى غمره تماما فشعر أنه متدثر بلحاف من الثلج وغفا وداهمته بعض الأحلام البيضاء والسوداء ثم تلاشت الأحلام.
أشرقت الشمس عند الصباح وبدأت تذيب الثلج إلا أن الثلج الذي كان يغمره لم يذب بل تداخل في جسمه وأصبح جزءا منه. إنفتح باب موقف السيارات ودخلت أول سيارة وهي سيارة حارس الموقف. أوقفها وإنتبه إلى كتلة من الثلج تشبه الإنسان في وسط ساحة سطح البناية. إندهش الحارس. حرك الكيان الثلجي بقدمه وكان ثقيلا. تمعن فيه. وجده يشبه إنسانا بكامل تفاصيله بدون ملابس ولكنه إنسان مصنوع من الثلج الشفاف أشبه بقالب الثلج المنحوت على هيئة إنسان ويده اليمنى مرفوعة قليلا. كان يشبه تمثال الزجاج الذي نوى أن يهديه إلى إبنته.
إتصل حارس موقف السيارات برجال الحراسة في (البساج) وصعد الحراس إلى سطح البناية الكبيرة. عندما وصل الحراس كان رجل الثلج ينز ماءاَ ولكنه لا ينقص من حجمه وكان الماء يسيل على سطح البناية والشمس تلقي بخيوط أشعتها عليه وتحدث إنعكاسا. وقف الحراس الثلاثة. تطلعوا إلى رجل الثلج وأخرج أحدهم عصا صغيرة مشدودة على حزامه وضربه على يده المرفوعة ولكن يده لم تنكسر ولم تتصدع. نظر جانبا فوجد حجرة كونكريتية في داخلها أسلاك ناتئة من الحديد من بقايا بناء المجمع التجاري. مسك الحارس بالحجر وضرب رجل الثلج على رأسه ولم ينكسر ولم يتصدع بل كان ينز ماءاَ دون أن ينقص من حجمه. سألوا موظف موقف السيارات عن سر هذه الظاهرة وفيما إذا قد حدث شيء غير طبيعي أثناء عمله قبل يوم فخبرهم أن رجلا كان هنا وسأله عن المصعد ومكان السلالم التي تؤدي إلى المجمع التجاري وهو لا يعرف إن كان قد غادر أم بقي في السطح وخبرهم أنه غادر ورفض أن يحمله معه في السيارة.
مسك الحارس بهاتفه المحمول وأخبر بلدية المدينة بما يجري فوق سطح المجمع التجاري.
لم يمض وقت طويل حتى تواجد رئيس البلدية وعدد من الموظفين ومعهم بعض رجال الصحافة ومصورو الصحافة والتلفزة. أعطى الحارس قطعة الحجر الكونكريتية إلى رئيس البلدية وطلب منه أن يضرب التمثال على رأسه ففعل ولم ينكسر الرأس ولا تصدع فيما أضوية فلاشات المصورين وأضوية مصوري التلفزيون موجهة نحو رجل الثلج والجميع يتهامسون مندهشين.
وصلت سيارة الإسعاف تتبعها سيارة الإطفاء وسيارة البوليس وحملوا رجل الثلج على نقالة الموتى وإنطلقت السيارات من السطح تتقدمها سيارة رجال الشرطة وهي تطلق صفارتها في شوارع المدينة. دخلوا في موقف للسيارات تحت بناية البلدية. وهناك جلبوا مجموعة من المطرقات الحديدية وبدأوا يضربون برجل الثلج دون أن تسقط منه قطعة واحدة ولم يتصدع ولكنه ظل ينز ماءاَ دون أن ينقص ذلك من حجمه. فقرروا إرساله إلى فرن لشوي الطين وصناعة السيراميك لإذابته.
حملته السيارات من جديد نحو فرن السيراميك في المدينة. أخرجوا رجل الثلج وأدخلوه في باحة فيها فرن كبير. وضعوه على قطعة خشبية كبيرة كتلك التي يستعملها الخبازون وأصحاب مطاعم البيتزا ولكن حجمها كان كبيرا. وتركوا المكان وجلسوا في مكتب المدير منتظرين النتائج.
دفع الفران برجل الثلج داخل الفرن وبقي ينتظر وينتظر وبعد زمن إستغرق قرابة خمسة عشر دقيقة بدأت نار الفرن تتلاشى حتى إنطفأت فأخرج رجل الثلج وكان ينز ماء دون أن ينقص حجمه.
جلس الفران أمام رئيس البلدية واللجنة وأقسم لهم أنه سمع أنينا من داخل الفرن وسمع صوتا يقول لماذا أدخلتموني في جهنم وأنا بريء.
ظهرت عناوين صحف اليوم التالي تتحدث عن المعجزة في المدينة. وقرروا أن يتباركوا برجل الثلج في مدينتهم وأن يضعوه على قاعدة في أكبر وأهم ساحات المدينة.
وضع رجل الثلج على قاعدة عالية في أكبر وأهم ساحات المدينة وتجمع الناس وثمة فرقة موسيقية تعزف موسيقى القرب والناس ترمي بالورود تحت أقدام رجل الثلج.
تجمع الناس من كل الأديان والملل. .....
قال المسلمون أنه رجل هاجر من مدينة البصرة في العراق قبل عشرات السنين وكان طيبا وصامتا طوال هذه السنوات.
وقالت النصارى. إنه مسيحي كان يعيش في روسيا وهرب من النظام الشيوعي قبل عشرات السنين وكان رجلا طيبا وصامتا طوال هذه السنوات.
وقالت اليهود إنه من اليمن. أمه يهودية وأبوه مسلم وقد غادر اليمن خوفا من التنكيل به بسبب ديانة أمه. وكان رجلا طيبا وصامتا طوال هذه السنوات.
وقالت الصابئة: إن في كتابهم المقدس (الكنز) إشارة ما بين السطور توحي أن رسولا ليوحنا المعمدان سيظهر بصورة بيضاء شفافة.
وقال البوذيون: لا توجد ملامح تدلل على بوذيته ولكن ثمة عمق في مكان عينيه وصغر فيهما ما يشير إلى أسيويته وبوذيته.
صعد الفران على منصة الخطابة وقال:
أيها القوم أقسم أني سمعته يأن ويقول لماذا أدخلتموني في جهنم وأنا بريء، ثم شاهدت نار الفرن تخفت حتى إنطفت وبدأ الماء يخرج من الفرن وأخرجته منه وكان باردا لم ينقص من حجمه شيئا وكما ترونه الآن.
قررت إدارة البلدية الإستفادة من الماء الذي يسقط منه لعمل نافورة وإعتبار المكان موقعا للقاء العشاق وكتابة مواعيدهم وعناوينهم. عمت الفرحة ساحة المدينة وبدأ العشاق يرقصون على أنغام موسيقى القرب ورجل الثلج رافعا يده. 



مفتبسه من الادب الانجليزي 

محمد جبريل الهباهبه 

ليست هناك تعليقات: